الـصـحـابـة
في القرآن والسُنّة والتأريخ
مركز الرسالة
بسم الله الرحمن الرحيم
مقدمة المركز
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على سيدنا محمد وآله الطيبين الطاهرين ، وبعد :
فإنه ما زال الكثير من قضايا الفكر والتاريخ يُقرأ وفق إسقاطات الذات والمواقف المسبقة ، بعيداً عن قوانين النقد العلمي وموازين البحث الموضوعي وضوابطه .
وبالرغم من اننا جميعاً ـ كمسلمين ـ نؤمن بقوله تعالى : ( فإن تَنَازَعتُم فِي شيءٍ فَردٌّوهُ إِلى اللهِ وَالرَّسولِ إِن كُنتم تُؤمِنُونَ بِاللهِ وَاليومِ الاَخِرِ ذَلِكَ خَيرٌ وأحسنُ تَأوِيلاً) ونعلم ان الرد إلى الله هو الرجوع إلى كتابه الكريم ، والرد إلى الرسول صلى الله عليه وآله وسلم هما الرجوع الى سنّته الشريفة ، بالرغم من ذلك فاننا في غالب البحوث من هذا النوع نلاحظ غلبة الاسلوب الانتقائي الخاضع لهيمنة الذات والمواقف المسبقة نفسها ، اذ يذهب اكثر الباحثين إلى انتقاء النصوص التي يمكنه أن يسند فيها موقفه ورأيه ، دون النظر إلى النصوص الاُخرى المشتركة في الموضوع نفسه ، والتي تشكّل مع النصوص السابقة الصورة المتكاملة للموضوع .
فالذي اتخذ موقفاً مؤيداً للسلطان ـ مثلاً ـ ويحرّم الخروج عليه وإن كان ذلك السلطان جائراً وفاسقاً ، تراه يذهب إلى الاحتجاج بالحديث الشريف الذي يقول : من فرق أمر هذه الاُمّة وهي جميع فاضربوه بالسيف كائناً من كان ، ونظائر هذا ، دون أن يلتفت إلى الاَحاديث الاُخرى ، من قبيل قوله صلى الله عليه وآله وسلم : سيد الشهداء حمزة ورجل قام إلى إمام جائر فأمره ونهاه ، فقتله وأمثاله التي جاءت لتبين مفاد الاَحاديث الاُولى وترسم حدودها .
والذي يذهب إلى القول بالتجسيم تراه يقتصر على متشابه القرآن والسُنّة الذي يفيد ظاهره بعض معاني التجسيم ، دون الالتفات إلى المحكم الذي يوجّه تلك الظواهر ويصرفها من الحقيقة إلى المجاز .
--------------------------------------------------------------------------------
( 6 )
ولعل مفهوم عدالة الصحابة هو واحد من أبرز تلك المفاهيم التي استمر الجدل حولها إلى يومنا هذا بسبب وجود من يلجأ إلى ذلك الاسلوب الانتقائي ، فهذا ابن خلدون الذي وضع في مقدمته قوانين دقيقة ومتينة في نقد التاريخ تراه يخفق في استخدامها في تاريخه عامة ، وفي تأريخ هذه الحقبة خاصة ، وكأنها غابت عنه بشكل كامل ، فهو حين ينتهي من التاريخ لهذه الحقبة ، يقول : (هذا آخر الكلام في الخلافة الاِسلامية وما كان فيها... أوردتها ملخصة من كتاب محمد بن جرير الطبري، وهو تاريخه الكبير ، فإنه أوثق ما رأيناه في ذلك ، وأبعد عن المطاعن والشبه في كبار الاُمّة من خيارها وعدولها من الصحابة والتابعين ، فكثيراً مايوجد في كلام المؤرخين مطاعن وشبه في حقهم أكثرها من أهل الاهواء ، فلا ينبغي أن تسوّد بها الصحف) ! ونحو هذا قاله ابن الاثير في مقدمته ، دون اعتماد لقوانين النقد والمقارنة والاستقراء .
أما المتكلمون فقد ذهبوا إلى أبعد من ذلك حين أوجبوا التأويل والتبرير لكل ماحفظه التاريخ من وقائع وأحداث تستدعي النظر والتحقيق في هذه المسألة (ومالم تجد له تأويلاً ، فقل : لعلّ له تأويل لا أعلمه) !
ولا شك ان مثل هذا المفهوم يجب ان يخضع ـ تحقيقاً وبرهاناً ـ للبحث التاريخي الذي يقوم على الاستقراء الشامل لتاريخ الصحابة أفراداً وجماعات .
ولا ينفصل هذا البحث التاريخي عن القرآن والسُنّة بحال ، ذلك ان القرآن الكريم كان راصداً لتلك المرحلة من مراحل التاريخ حافظاً للكثير من مشاهدها ، وهو المصدر المعصوم الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه ، والقول نفسه مع السُنّة المطهّرة حيث كان صاحبها صلى الله عليه وآله وسلم الشاهد والمربي والمرشد والموجه والقائد، وقد ترك لنا الكثير من الاثر المعصوم الذي ينبغي ان نستنير به في معرفة ما يتصل بهذه الحقبة التاريخية ورجالها .
ووفق هذا المنهج سار هذا الكتاب الذي يقدمه مركزنا للقرّاء ، خدمة للحقيقة الدينية والتاريخية ، راجين ان يعم النفع به ، والله الهادي إلى سواء السبيل .
مركز الرسالة
--------------------------------------------------------------------------------
( 7 )
المقدِّمة
الحمدُ لله ربِّ العالمين ، والصلاة والسلام على خاتم الرسل والاَنبياء محمد المصطفى وعلى آله الطيبين الطاهرين ، وصحبهم المنتجبين ، وبعد :
فإنّ من المسائل التي لا زالت تثير جدلاً واسعاً في الاَوساط العلمية مسألة عدالة الصحابة ، وقد بقي البحث فيها موزعاً على آراء مطابقة للآراء المتقدمة على مرِّ التاريخ ، فذهب البعض إلى عدالة جميع الصحابة ، وذهب آخرون إلى عدالة بعض الصحابة دون بعض .
إنَّ المنهج العلمي يستدعي النظر إلى الآراء والاَفكار بموضوعية بحثاً عن الحقيقة لذاتها ، وبعيداً عن تحكيم المرتكزات الذهنية المسبقة في البحث والتحقيق ، لتكون النتيجة تابعة للدليل بما هو دليل وإن اصطدمت بالمألوف والمتعارف من الآراء والاَفكار والاَحكام .
وفي بحثنا هذا نتتبع المسألة باستنطاق القرآن والسُنّة والتاريخ للوصول إلى الرأي النهائي ، بحيادية وموضوعية تبعاً للدليل دون التأثر بالمرتكزات الذهنية والاَحكام المسبقة ، مواكبين موارد ذكر الصحابة في القرآن الكريم ، والآيات النازلة فيهم مدحاً وذماً ، وما ورد عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في الصحابة من روايات مادحة وذامة ، ونواصل البحث من خلال تتبع سيرهم الذاتية ضمن الحركة التاريخية لمراحل الدعوة الاِسلامية ، منذ انضمامهم للاِسلام في بداية البعثة ، ومساهمتهم الجادّة في إرساء
--------------------------------------------------------------------------------
( 8 )
دعائم العقيدة والشريعة ، بجهادهم وتضحياتهم المتواصلة ، معتمدين الموازين الثابتة ، دون أن نبخس أحداً حقّه في التقييم الموضوعي تبعاً للقرآن والسُنّة والتاريخ .
ونترك للقارىء الكريم حريّة الاختيار في الحكم على النتائج طبقاً للاَدلة والشواهد التاريخية ، والله ولي التوفيق .
--------------------------------------------------------------------------------
( 9 )
الفصل الاَول
المعنى اللغوي للصحبة
قال الخليل الفراهيدي : (كلّ شيء لاءَم شيئاً فقد استصحبه ، والصحابة : مصدر صاحَبَكَ ، الصاحب يكون في حالٍ نعتاً ولكنّه عمّ في الكلام فجرى مجرى الاسم) (1).
وقال الجوهري : (كلّ شيء لاءَم شيئاً فقد استصحبه . اصطحب القوم : صَحِبَ بعضهم بعضاً . أصحب : إذا انقاد بعد صعوبة) (2).
وقال الراغب الاَصفهاني : (الصاحب : الملازم... ولا فرق بين أن تكون مصاحبته بالبدن وهو الاَصل والاَكثر ، أو بالعناية والهمة .
ويقال لمالك الشيء : هو صاحبه ، وكذلك لمن يملك التصرّف فيه .
والمصاحبة والاصطحاب أبلغ من الاجتماع ، لاَجل أنّ المصاحبة تقتضي طول لبثة، فكل اصطحاب اجتماع، وليس كل اجتماع اصطحاباً)(3).
____________
1) ترتيب كتاب العين ، للفراهيدي : 440 مؤسسة النشر الاِسلامي قم 1414 هـ ط1 .
2) الصحاح ، للجوهري 1 : 162 دار العلم للملايين 1407 هـ ط2 .
3) مفردات ألفاظ القرآن ، للراغب الاصفهاني : 275 المكتبة المرتضوية 1373 هـ .
--------------------------------------------------------------------------------
( 10 )
وعلى نحو هذا سار معظم أصحاب اللغة ، ومن خلاله يكون معنى الصاحب هو : الملائم والمعاشر والملازم والمتابع ، ولا يتم ذلك إلاّ باللقاء والاجتماع .
الصحبة في القرآن الكريم :
المعنى اللغوي للصحبة كما تقدم ورد في القرآن الكريم في ألفاظ متعددة تشترك في معنى متقارب ، وهو المعاشرة والملازمة المتحققة بالاجتماع واللقاء واللبث ، دون النظر إلى وحدة الاعتقاد أو وحدة السلوك ، فقد أطلقها القرآن الكريم في خصوص المعاشرة بين مؤمن ومؤمن ، وبين مؤمن وكافر ، وبين كافر وكافر ، وقد أشار إلى ذلك ابن كثير في تفسيره (1) .
أولاً : الصحبة بين مؤمن ومؤمن
قال الله تعالى حكاية عن موسى عليه السلام في حديثه مع العبد الصالح : (قالَ إن سألتُكَ عن شيءٍ بعدَها فلا تُصاحِبني ) (2).
فقد أطلق القرآن الصحبة على الملازمة بين موسى عليه السلام والخضر عليه السلام .
ثانياً : الصحبة بين ولد ووالدين مختلفين بالاعتقاد
قال تعالى : ( وإن جاهَدَاكَ على أن تُشرِكَ بي ما ليسَ لَكَ بهِ عِلمٌ فلا تُطعهما وصاحِبهُما في الَّدُنيا معرُوفاً ) (3).
____________
1) تفسير القرآن الكريم ، لابن كثير راجع تفسير الآيات المذكورة .
2) سورة الكهف 18 : 76 .
3) سورة لقمان 31 : 15 .
--------------------------------------------------------------------------------
( 11 )
ثالثاً : الصحبة بين رفيقي سفر
قال تعالى: (... والجارِ ذي القُربى والجارِ الجُنُب والصَّاحِبِ بالجَنبِ...)(1)
رابعاً : الصحبة بين تابع ومتبوع
قال تعالى : (... ثاني اثنين إذ هُما في الغارِ إذ يقُولُ لصاحِبِهِ لا تَحزَن إنّ اللهَ معنَا ) (2) .
خامساً : الصحبة بين مؤمن وكافر
قال تعالى : (... فقالَ لصاحبهِ وهوَ يُحاوِرُهُ أنا أكثرُ مِنكَ مالاً وأعزُّ نفراً... قالَ لهُ صاحبُهُ وهو يُحاورُهُ أكفَرتَ بالّذي خَلَقَكَ مِن تُرابٍ ) (3).
سادساً : الصحبة بين النبي صلى الله عليه وآله وسلم وقومه وإن كانوا كافرين
قال تعالى : ( ما ضَلَّ صاحِبُكُم وما غَوى ) (4).
وقال تعالى: ( أولَمْ يَتَفَكَّرُوا مابصاحِبِهِم مِن جِنَّةٍ إن هوَ إلاّ نذيرٌ مُبينٌ )(5).
سابعاً : الصحبة بين كافر وكافرين
قال تعالى : ( فنادَوا صاحِبَهُم فَتَعاطى فَعَقَر ) (6).
____________
1) سورة النساء 4 : 36 .
2) سورة التوبة 9 : 40 .
3) سورة الكهف 18 : 34 ـ 37 .
4) سورة النجم 53 : 2 .
5) سورة الاَعراف 7 : 184 .
6) سورة القمر 54 : 29 .
--------------------------------------------------------------------------------
( 12 )
ووردت كلمة (أصحاب) في القرآن الكريم تدل على معنى اللبث والمكوث ومنها : أصحاب الجنة ، وأصحاب النار ، وأصحاب الكهف ، وأصحاب القرية ، وأصحاب مَدْين ، وأصحاب الاَيكة .
ووردت في العلاقة الاضطرارية الوقتية كما في خطاب يوسف عليه السلام لصاحبيه في السجن : ( يا صاحِبَي السِجنِ ) (1).
فالصاحب كما ورد في الآيات الكريمة المتقدمة يعني المعاشر والملازم ، ولا تصدق المعاشرة والملازمة إلاّ باللقاء والاجتماع واللبث معاً .
وبالتوفيق بين المعنى اللغوي عند علماء اللغة ، وبين الآيات القرآنية ، يكون معنى الصاحب هو : من كثرت ملازمته ومعاشرته ، وهذا ما نصّ عليه بعضهم كصدّيق حسن خان حيث قال : (اللغة تقتضي أنَّ الصاحب هو من كثرت ملازمته) (2).
الصحبة في الحديث النبوي :
أُطلق لفظ الصحابي ـ في الروايات ـ على كلِّ من صحب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم من المسلمين، سواء كان مؤمناً به واقعاً وحقيقة ، أو ظاهراً ، فكان اللفظ شاملاً للمسلم المؤمن وللمسلم المنافق ، سواء كان مشهوراً بنفاقه أو غير مشهور.
____________
1) سورة يوسف 12 : 39 .
2) قواعد التحديث ، محمد جمال الدين القاسمي : 200 دار الكتب العلمية 1399 هـ ط1 ـ بيروت ـ عن كتاب : حصول المأمول لصديق حسن خان : 65 .
--------------------------------------------------------------------------------
( 13 )
فحينما طلب عمر بن الخطّاب من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أن يقتل عبدالله بن أُبي بن سلول ـ المنافق المشهور ـ قال صلى الله عليه وآله وسلم : « فكيف يا عمر إذا تحدَّث الناس أنَّ محمّداً يقتل أصحابه ؟ » (1).
وحينما طلب عبدالله بن عبدلله بن أُبي من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أن يقوم بنفسه بقتل والده أجابه صلى الله عليه وآله وسلم بالقول: « بل نترفق به ، ونحسن صحبته ما بقي معنا »(2).
فقد أطلق صلى الله عليه وآله وسلم لفظ الصحابي ليشمل حتّى من اشتهر بفسقه كعبدالله ابن أُبي بن سلول ، وأطلقه أيضاً على المستور نفاقهم ، فقال صلى الله عليه وآله وسلم : « إنَّ في أصحابي منافقين » (3).
المعنى الاصطلاحي للصحابي :
وردت عدّة آراء في خصوص المعنى الاصطلاحي لصحابي رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم :
الرأي الاَوّل : لا يشترط أصحاب هذا الرأي كثرة الملازمة والمعاشرة مع النبي صلى الله عليه وآله وسلم في إطلاق لفظ الصحابي ، بل يكتفون بها ولو كانت ساعة أو كانت مجرد رؤية .
ففي رواية عبدوس بن مالك العطّار عن أحمد بن حنبل أنّه قال :
____________
1) السيرة النبوية ، لابن هشام 3 : 303 . والسيرة النبوية ، لابن كثير 3 : 299 . وبنحوه في : صحيح البخاري 6 : 192 . وأسباب نزول القرآن ، للواحدي : 452 .
2) السيرة النبوية ، لابن هشام 3 : 305 . والسيرة النبوية ، لابن كثير 3 : 301 . وبنحوه في : الطبقات الكبرى ، لابن سعد 2 : 65 . وأسباب نزول القرآن : 453 .
3) مسند أحمد 5 : 40 . وتفسير القرآن العظيم ، لابن كثير 2 : 399 .
--------------------------------------------------------------------------------
( 14 )
(أفضل الناس بعد أهل بدر القرن الذي بعث فيهم ، كل من صحبه سنة أو شهراً أو يوماً أو ساعة أو رآه ، فهو من أصحابه) (1).
ومن القائلين بهذا الرأي البخاري : (ومن صحب النبي صلى الله عليه وآله وسلم أو رآه من المسلمين فهو من أصحابه) (2).
وقال علي بن المديني : (من صحب النبي صلى الله عليه وآله وسلم أو رآه ولو ساعة من نهار فهو من أصحاب النبي صلى الله عليه وآله وسلم ) (3).
وقال ابن حجر العسقلاني : (الصحابي من لقي النبي صلى الله عليه وآله وسلم مؤمناً به ومات على الاِسلام ، فيدخل فيمن لقيه من طالت مجالسته له أو قصرت ، ومن روى عنه أو لم يرو ، ومن غزا معه أو لم يغز ، ومن رآه رؤية ولو لم يجالسه ، ومن لم يره لعارض كالعمى) (4).
وذهب ابن حزم الاندلسي إلى هذا الرأي ، ولكنّه قيّده بعدم النفاق ، فقال: (أمّا الصحابة رضي الله عنهم فهو كلّ من جالس النبي صلى الله عليه وآله وسلم ولو ساعة ، وسمع منه ولو كلمة فما فوقها ، أو شاهد منه عليه السلام أمراً يعيه ، ولم يكن من المنافقين الذين اتصل نفاقهم واشتهر حتى ما توا على ذلك ، ولا مثل من نفاه عليه السلام باستحقاقه ، كهيت المخنّث ، ومن جرى مجراه ، فمن كان كما وصفنا أولاً فهو صاحب... ووفد عليه جميع البطون من جميع القبائل
____________
1) العدّة في أُصول الفقه ، للفرّاء الحنبلي 3 : 988 ـ الرياض 1410 هـ ط2 .
2) فتح الباري 7 : 3 .
3) فتح الباري 7 : 3 .
4) الاِصابة ، لابن حجر العسقلاني 1 : 4 دار الكتب العلمية .
--------------------------------------------------------------------------------
( 15 )
وكلهم صاحب) (1) .
وقيد (لم يكن من المنافقين الذين اتصل نفاقهم واشتهر) مخالف لما ورد من روايات أطلق فيها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إسم الصحابي على المنافق المشهور وغيره .
وتابع زين الدين العاملي رأي المشهور من المحدِّثين فقال : (الصحابي: من لقي النبي صلى الله عليه وآله وسلم مؤمناً به ومات على الاِسلام ، وإن تخللت ردّته بين كونه مؤمناً وبين كونه مسلماً على الاَظهر ، والمراد باللّقاء ما هو أعم من المجالسة والمماشاة ووصول أحدهما إلى الآخر ، وإن لم يكالمه...) (2) .
ووزّع الحاكم النيسابوري الصحابة على طبقات ، وذكر في الطبقة الثانية عشرة : (صبيان وأطفال رأوا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يوم الفتح وفي حجة الوداع... ومنهم أبو الطفيل عامر بن واثلة) (3).
ومن خلال هذه الاَقوال يصدق معنى الصحابي على كلِّ من صحب النبي صلى الله عليه وآله وسلم ولو ساعة من الزمان ، ورآه وإن لم يكلّمه ، سواء كان رجلاً كبيراً أو امرأة أو طفلاً صغيراً ، ويشترط فيه الاِسلام الظاهري فيشمل المؤمن والمنافق .
الرأي الثاني : الصحابي من عاصر النبي صلى الله عليه وآله وسلم وإن لم يره .
____________
1) الاِحكام في أصول الاَحكام ، لابن حزم الاندلسي 5 : 86 دار الجيل ـ بيروت 1407 هـ ط2 .
2) الدراية ، زين الدين العاملي : 120 مطبعة النعمان ـ النجف الاَشرف .
3) معرفة علوم الحديث ، للحاكم النيسابوري : 24 دار الكتب العلمية 1397 هـ ط2 .
--------------------------------------------------------------------------------
( 16 )
وذهب إلى هذا الرأي يحيى بن عثمان بن صالح المصري ، فقال : (إنّ الصحابي من عاصره فقط) ، وقال : (وممن دفن : أي بمصر من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ممن أدركه ولم يسمع به : أبو تميم الجيشاني ، واسمه عبدالله بن مالك ، كان صغيراً محكوماً بإسلامه تبعاً لاَحد أبويه) (1)
وعلى هذا الرأي فإنّ الصحابي يطلق على جميع من عاصر النبي صلى الله عليه وآله وسلم من المسلمين كباراً وصغاراً وإن لم يروه ، وبعبارة اُخرى ، إنّ جميع المسلمين في عهد النبي صلى الله عليه وآله وسلم هم من الصحابة ، وكذا من يحكم بإسلامهم تبعاً لاَحد الاَبوين .
الرأي الثالث : رأي الاصوليين .
الصحابي في رأي الاصوليين : هو من رأى النبي صلى الله عليه وآله وسلم واختص به ، واتبعه أو رافقه مدة يصدق معها اطلاق (صاحب فلان) عليه بلا تحديد لمقدار تلك الصحبة .
نقل هذا الرأي محمد أمين المعروف بأمير بادشاه ونسبه إلى جمهور الاَصوليين (2) .
ونسب الآمدي هذا الرأي إلى عمر بن يحيى وآخرين لم يذكر أسماءهم (3) .
وذهب إلى هذا الرأي الغزالي ، فقال : (لا يطلق إلاّ على من صحبه ، ثم
____________
1) تيسير التحرير ، لمحمد أمير بادشاه 3 : 67 ـ دار الفكر .
2) تيسير التحرير 3 : 66 .
3) الاِحكام في أصول الاَحكام 2 : 321 .
--------------------------------------------------------------------------------
( 17 )
يكفي للاسم من حيث الوضع الصحبة ولو ساعة ، ولكن العرف يخصص الاسم بمن كثرت صحبته) (1).
لكن سعيد بن المسيب جعل حدّاً معلوماً في أحد شرطين ، إذ كان لايعدّ في الصحابة إلاّ من أقام مع النبي صلى الله عليه وآله وسلم سنة فصاعداً أو غزا معه غزوة فصاعداً (2) .
وقد اعترض البعض على هذا الرأي ، ومنهم ابن حجر العسقلاني ، فقال : (والعمل على خلاف هذا القول ، لاَنّهم اتفقوا على عدّ جمعٍ جمٍّ في الصحابة لم يجتمعوا بالنبي صلى الله عليه وآله وسلم إلاّ في حجة الوداع) (3).
واعترض ابن حزم الاَندلسي على هذا الرأي فقال : (... وهذا خطأ بيقين ، لاَنّه قول بلا برهان ، ثم نسأل قائله عن حد التكرار الذي ذكر وعن مدة الزمان الذي اشترط) (4).
وعند متابعة الكتب المؤلفة في الصحابة نجد أنّ كثيراً من المذكورين فيها لم يروا أو يصحبوا النبي صلى الله عليه وآله وسلم إلاّ ساعات أو أيام معدودة ، بل أنّ بعضهم كان طفلاً صغيراً كجرير بن عبدالله وغيره .
الرأي الرابع : أنّ الصحابي هو : من صحب النبي صلى الله عليه وآله وسلم وطالت صحبته وأخذ عنه العلم .
نسب أبو يعلى الفرّاء الحنبلي إلى عمرو بن بحر الجاحظ أنّه قال : (إنّ
____________
1) المستصفى ، للغزالي 2 : 261 المدينة المنورة 1413 هـ .
2) فتح الباري 7 : 2 .
3) فتح الباري 7 : 2 .
4) الاِحكام في أُصول الاَحكام 5 : 86 .
--------------------------------------------------------------------------------
( 18 )
هذا الاسم إنّما يُسمى به من طالت صحبته للنبي صلى الله عليه وآله وسلم واختلاطه به ، وأخذ عنه العلم) (1) .
والذي قيل في هذا الرأي : إنّ طول الصحبة ليس شرطاً في إطلاق التسمية على من صحبه ، لاَنّه يلزم إخراج كثير من الذين سُموا صحابة عن الصحبة ، واشتراط أخذ العلم أيضاً يستلزم تضييق عدد الصحابة وإخراج الكثير منهم لاَنّهم لم يأخذوا العلم منه (2).
تقييم الآراء :
قد عرفنا أن المعنى اللغوي ـ الذي عليه استعمالات مادة «صحب» في الكتاب والسُنّة ـ لا يصدق إلاّ حيث تصدق «المعاشرة» و «الملازمة» ، ومن الواضح عدم صدق هذه المعاني على مجرّد «المعاصرة» أو «الرؤية» .
فالمفهوم اللغوي لهذه اللفظة مقيَّد بأنْ تكون «المصاحبة» في زمان تصدق فيه «المعاشرة» ، كما أنه مطلق من حيث الاِيمان وعدمه ، إذ يصدق على كلّ من لازم شخصاً أنّه صاحبه ، وإنْ لم يكن مثله أو تابعاً له في الفكر والعقيدة ، وكذا من حيث التعلّم منه والاَخذ عنه ، وعدمه ، نعم طول الملازمة وكثرة المعاشرة مع النبي صلى الله عليه وآله وسلم يقتضيان الايمان به واقعاً والاَخذ عنه والتعلّم منه ، إلاّ أن تكون المعاشرة والملازمة لاَغراضٍ اُخرى.
وأمّا ما أصطلح عليه الجمهور من أنّ مجرّد الرؤية كافٍ في اطلاق
____________
1) العدة في أصول الفقه 3 : 988 .
2) راجع العدة في أصول الفقه 3 : 989 .
--------------------------------------------------------------------------------
( 19 )
الصحبة فيحتاج إلى دليلٍ مقبول .
وقد يشهد بما ذكرنا ما روي عن أنس بن مالك ، وقد سُئل : (هل بقي من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم غيرك ؟ قال : ناس من الاَعراب رأوه ، فأما من صحبه فلا) وإنْ حاول ابن كثير توجيهه قائلاً : (وهذا إنّما نفى الصحبة الخاصة ، ولا ينفي ما اصطلح عليه الجمهور من أنّ مجرد الرؤية كافٍ في إطلاق الصحبة) (1).
إنّ ما اصطلح عليه الجمهور يحتاج إلى دليلٍ مقبول ـ كما أشرنا ـ وإلاّ فإنّ مجرّد عدّهم جماعةً لم يروا النبي صلى الله عليه وآله وسلم إلاّ رؤيةً في الصحابة لا يكون دليلاً ، ودعوى الاتفاق منهم على ذلك غير مسموعة مع وجود الخلاف والاَقوال العديدة في المسألة .
وعلى الجملة ، فإنّه بناءً على أن يكون للمسألة أثر في العمل ، فلا بدّ من الاقتصار على ما ذكرناه حتى يقوم الدليل الصحيح على خلافه فيكون هو المتّبع ، والله العالم .
____________
1) الباعث الحثيث في شرح اختصار علوم الحديث ، للحافظ ابن كثير : 175 دار الكتب العلمية 1403 هـ ط1 .
الفصل الثاني
الصحابة في القرآن الكريم
وتعرّض القرآن الكريم لاَحوال الصحابة وصفاتهم منذ بداية بعثة النبي صلى الله عليه وآله وسلم وحتى وفاته... في كثيرٍ من سوره وآياته...
لقد قسّم القرآن الكريم الملتّفين حول النبي صلى الله عليه وآله وسلم ـ في مقابل الكافرين والذين أُوتوا الكتاب ـ إلى ثلاثة طوائف هم :
1 ـ الذين آمنوا .
2 ـ الذين في قلوبهم مرض .
3 ـ المنافقون .
والجدير بالدراسة والبحث وجود عنوان «الذين في قلوبهم مرض» إلى جنب «الذين آمنوا» في بعض السور المكية .
ففي سورة المدثر ، المكية بالاجماع ، وهي من أوليات السور ، جاء قوله تعالى : ( وَما جَعلنا أصحَابَ النَّارِ إلاّ مَلائكةً * وما جَعلنَا عِدّتهُم إلاّ فِتنَةً للَّذينَ كَفرُوا ليستيقِنَ الَّذينَ أُوتُوا الكِتابَ ويَزدادَ الَّذينَ آمَنُوا إيماناً ولايَرتَابَ الَّذينَ أُوتُوا الكِتابَ والمؤمنُونَ وليقُولَ الَّذينَ في قُلوبِهمِ مَرضٌ والكافِرونَ ماذا
--------------------------------------------------------------------------------
( 22 )
أرادَ اللهُ بِهذا مَثَلاً... ) (1).
دلّت الآية المباركة على وجود أُناس «في قلوبهم مرض» حول النبي صلى الله عليه وآله وسلم منذ الاَيام الاُولى من الدعوة الاِسلامية ، و «المرض» بأي معنىً فسّر ، فهؤلاء غير المنافقين الذين ظهروا بالمدينة المنورة ، قال الله تعالى : (وممّن حولكم من الاَعراب ومن أهل المدينة... ) (2).
فالذين في قلوبهم مرض لازموا النبي منذ العهد المكي ، حيث كان الاِسلام ضعيفاً والنبي صلى الله عليه وآله وسلم مطارداً . أما المنافقون فقد ظهروا بعد أن ظهرت شوكة الاِسلام ، فتظاهروا بالاِسلام حفظاً لاَنفسهم وأموالهم وشؤونهم .
وبناءً على هذا ، فكلّ آيةٍ من القرآن الكريم ورد في ظاهرها شيء من الثناء على عموم الصحابة ، فهي ـ لو تمّ الاستدلال بها ـ محفوفة بما يخرجها عن الاطلاق والعموم وتكون مخصّصةً بـ «الذين آمنوا» حقيقةً ، فلا يتوهّم شمولها للذين في قلوبهم مرض ، والمنافقين ، الذين وقع التصريح بذمّهم كذلك في كثيرٍ من الآيات (3).
وفيما يلي نستعرض الآيات القرآنية التي نزلت في الصحابة في مختلف مراحل الدعوة الاِسلامية ، وفي مختلف ظروفهم من حيث القرب والبعد عن الاَسس الثابتة في العقيدة والشريعة ، ومن حيث درجة الانقياد لله ورسوله صلى الله عليه وآله وسلم في الاَوامر والنواهي .
____________
1) سورة المدثر 74 : 31 .
1) سورة التوبة 9 : 101 .
3) اُنظر تفسير الميزان 20 : 90 .
--------------------------------------------------------------------------------
( 23 )
آيات المدح والثناء
ذكر غير واحد من المؤلفين آياتٍ من القرآن الكريم للاستدلال على أنّ الله قد أثنى في كتابه على الصحابة بنحو العموم :
الآية الاُولى : قال تعالى : ( كُنتُمْ خيرَ أُمَّةٍ أُخرجَتْ للنّاسِ تأمُرُونَ بالمعروفِ وتَنهَونَ عَنِ المنكرِ وتؤمنونَ باللهِ... ) (1).
قالوا : نزلت هذه الآية في المهاجرين من مكّة إلى المدينة كما ورد عن عبدالله بن عباس أنّه قال : (هم الذين هاجروا مع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم من مكّة إلى المدينة) (2).
وعن عكرمة ومقاتل : (نزلت في ابن مسعود واُبي بن كعب ومعاذ بن جبل وسالم مولى أبي حذيفة ، وذلك أنّ مالك بن الصيف ووهب بن يهوذا اليهوديين قالا لهم : إنَّ ديننا خير مما تدعوننا إليه ونحن خير وأفضل منكم فأنزل الله تعالى هذه الآية...) (3).
لكن قول ابن عباس لو ثبت مقيّد بما أشرنا إليه ، فلا يكون المراد عموم المهاجرين الشامل للذين في قلوبهم مرض قطعاً .
كما أنّ قول عكرمة وأمثاله ليس بحجة .
____________
1) سورة آل عمران 3 : 110 .
2) تفسير القرآن العظيم ، لابن كثير 1 : 399 . والدر المنثور ، للسيوطي 2 : 293 . وبنحوه في الجامع لاحكام القرآن ، للقرطبي 4 : 170 .
3) أسباب نزول القرآن ، للواحدي : 121 .
--------------------------------------------------------------------------------
( 24 )
والآية حتى لو كانت نازلة في مورد خاص إلاّ أنّ المفسرين وسّعوا المفهوم ليشمل جميع الاُمّة الاِسلامية كما يقول ابن كثير : (والصحيح أنَّ هذه الآية عامة في جميع الاُمّة كل قرن بحسبه) (1).
واختلف العلماء في تشخيص من تشمله الآية ، هل هو الاُمّة بأفرادها فرداً فرداً ؟ أي أنّ كلّ فرد من الاُمّة الاِسلامية هو موصوف بالخيرية ، أو هو الاُمة إجمالاً ، أي بمجموعها دون النظر إلى الاَفراد فرداً فرداً .
فذهب جماعة إلى الرأي الاَول ومنهم : الخطيب البغدادي ، وابن حجر العسقلاني ، وابن عبدالبر القرطبي ، وابن الصلاح ، وابن النجّار الحنبلي (2) .
فالآية في نظرهم شاملة لجميع أفراد الاُمّة وهم الصحابة آنذاك ، فكل صحابي يتصف بالخيرية والعدالة مادام يشهد الشهادتين .
وذهب آخرون إلى الرأي الثاني ، وهو اتصاف مجموع الاُمّة بالخيرية دون النظر إلى الاَفراد فرداً فرداً ، وقيّدوا هذه الصفة بشرط الاَمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، فلا يتصف بالخيرية من لم يأمر بالمعروف ولم ينه عن المنكر ، سواء كان فرداً أو أُمّة .
قال الفخر الرازي : (... المعنى أنّكم كنتم في اللوح المحفوظ خير الاُمم وأفضلهم ، فاللائق بهذا أن لا تبطلوا على أنفسكم هذه الفضيلة... وأن تكونوا منقادين مطيعين في كلِّ ما يتوجه عليكم من التكاليف... والاَلف
____________
1) تفسير القرآن العظيم 1 : 399 .
2) الكفاية في علم الرواية : 46 . الاصابة 1 : 6 . والاستيعاب 1 : 2 . ومقدمة ابن الصلاح : 427 . وشرح الكوكب المنير 2 : 274 .
--------------------------------------------------------------------------------
( 25 )
واللام في لفظ (المعروف) ، ولفظ (المنكر) يفيدان الاستغراق ، وهذا يقتضي كونهم آمرين بكلِّ معروف وناهين عن كلِّ منكر... (تأمرون) المقصود به بيان علة تلك الخيرية) (1).
وقال الفضل الطبرسي : (كان بمعنى صار ، ومعناه : صرتم خير أُمّة خلقت لاَمركم بالمعروف ونهيكم عن المنكر وإيمانكم بالله ، فتصير هذه الخصال... شرطاً في كونهم خيراً) (2).
وقال القرطبي : (تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر : مدح لهذه الاُمّة ما أقاموا ذلك واتصفوا به ، فإذا تركوا التغيير وتواطئوا على المنكر ، زال عنهم اسم المدح ولحقهم اسم الذم ، وكان ذلك سبباً لهلاكهم) (3).
فالخيرية تزول إن زالت علّتها ، وذهب إلى ذلك ـ أيضاً ـ نظام الدين النيسابوري (4) ، والشوكاني (5)، وآخرون .
وذكر ابن كثير قولين ـ في ذكر الشروط ـ أحدهما لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم والآخر لعمر بن الخطّاب :
قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : « خيرُ الناس أقرأهم ، وأتقاهم ، وآمرهم بالمعروف ، وأنهاهم عن المنكر ، وأوصلهم للرحم » (6).
____________
1) التفسير الكبير 8 : 189 ـ 191 .
2) مجمع البيان في تفسير القرآن ، للطبرسي 1 : 486 .
3) الجامع لاَحكام القرآن ، للقرطبي 4 : 173 .
4) تفسيرغرائب القرآن ، للنيسابوري 2 : 232 .
5) فتح القديرللشوكاني : 371 .
6) تفسيرالقرآن العظيم: لابن كثير 1: 399
--------------------------------------------------------------------------------
( 26 )
فالآية الكريمة ناظرة إلى مجموع الاُمّة ، أمّا الاَفراد فقد وضع صلى الله عليه وآله وسلم مقياساً لاتصافهم بالخيرية كما جاء في قوله .
وفي حجة حجّها عمر بن الخطاب رأى من الناس دعة ، فقرأ هذه الآية، ثم قال : (من سرّه أن يكون من هذه الاُمّة فليؤدِ شرط الله فيها) (1).
وذهب أحمد مصطفى المراغي إلى أنّ الخيرية مختصة بمن نزلت فيهم الآية في حينها ، ثم وسّع المفهوم مشروطاً بالاَمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، فقال : (... أنتم خير أُمّة في الوجود الآن ، لاَنكم تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر وتؤمنون إيماناً صادقاً يظهر أثره في نفوسكم... وهذا الوصف يصدق على الذين خوطبوا به أولاً ، وهم النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه الذين كانوا معه وقت التنزيل... وما فتئت هذه الاُمّة خير الاُمم حتى تركت الاَمر بالمعروف والنهي عن المنكر) (2).
وأضاف محمد رشيد رضا : الاعتصام بحبل الله ، وعدم التفرّق ، إلى شرط الاَمر بالمعروف والنهي عن المنكر فقال : (شهادة من الله تعالى للنبي صلى الله عليه وآله وسلم ومن اتّبعه من المؤمنين الصادقين إلى زمن نزولها بأنّها خير أُمّة أُخرجت للناس بتلك المزايا الثلاث ، ومن اتّبعهم فيها كان له حكمهم لامحالة ، ولكن هذه الخيرية لا يستحقها من ليس لهم من الاِسلام واتّباع النبي صلى الله عليه وآله وسلم إلاّ الدعوى وجعل الدين جنسية لهم ، بل لا يستحقها من أقام الصلاة وآتى الزكاة وصام رمضان وحجّ البيت الحرام والتزم الحلال واجتنب الحرام مع الاخلاص الذي هو روح الاِسلام ، إلاّ بعد القيام بالاَمر
____________
1) تفسير القرآن العظيم ، لابن كثير 1 : 404 .
2) تفسير المراغي ، لاحمد مصطفى المراغي 4 : 29 .
--------------------------------------------------------------------------------
( 27 )
بالمعروف والنهي عن المنكر وبالاعتصام بحبل الله مع اتّقاء التفرّق والخلاف في الدين...
إنّ هذه الصفات العالية والمزايا الكاملة لذلك الاِيمان الكامل ، لم تكن لكلِّ من يطلق عليه المحدثون اسم الصحابي) (1).
ومن خلال طرح هذه الآراء نجد أنّ الرأي الثاني هو الاَقرب للمعنى المراد ، فإنَّ الآية ناظرة إلى مجمل الاُمّة وليس إلى الاَفراد فرداً فرداً .
وأكدّ الدكتور عبدالكريم النملة هذا المعنى فقال : (... لا يجوز استعمال اللفظ في معنيين مختلفين ، فالمراد مجموع الاُمّة من حيث المجموع ، فلا يراد كل واحد منهم ـ أي من الصحابة ـ) (2).
الآية الثانية : قال تعالى : ( وكذلِكَ جعلناكُم أُمَّةً وسطاً لِتكونُوا شُهداءَ على النّاسِ ويكونَ الرّسُولُ عليكم شهيداً... ) (3).
جعل الله تعالى المسلمين أُمّة وسطاً بين الاُمم ، لا سيّما اليهود والنصارى ، فالاُمّة الوسط بعيدة عن التقصير والغلو في الاعتقاد وفي المواقف العملية من الاَنبياء ، قال النيسابوري : (إنّهم متوسطون في الدين بين المفرط والمفرّط ، والغالي والمقصّر في شأن الاَنبياء لا كالنصارى... ولا كاليهود) (4) .
ويطلق الوسط أيضاً على الخيار والعدل .
____________
1) تفسير المنار 4 : 58 ـ 59 .
2) مخالفة الصحابي للحديث النبوي الشريف : 82 .
3) سورة البقرة 2 : 143 .
4) تفسير غرائب القرآن 1 : 421 .
--------------------------------------------------------------------------------
( 28 )
قال الزمخشري : (... وقيل للخيار وسط لاَنّ الاَطراف يتسارع إليها الخلل والاِعوار ، والاَوساط محمية محوطة.. أو عدولاً لاَنَّ الوسط عدل بين الاَطراف ليس إلى بعضها أقرب من بعض) (1).
وقال القرطبي نحو ذلك (2).
والوسطية بمعنى الاعتدال بين الافراط والتفريط هي المستعملة في آراء المشهور من المفسرين (3).
فهذه الآية كسابقتها في أن المراد مجموع الاُمّة من حيث المجموع ، وإنْ حاول جماعة ـ ومنهم : عبدالرحمن ابن أبي حاتم الرازي، والخطيب البغدادي ، وابن حجر العسقلاني ، وابن عبدالبر القرطبي ، وابن الصلاح ، وابن النجّار (4)ـ تنزيلها على الاَفراد فجعلوا كلّ مسلم وسطاً وعدلاً ، فالصحابة جميعهم عدول بشهادة القرآن لهم .
قال الفضل الطبرسي : (... إنّه ـ تعالى ـ جعل أُمّة نبيه محمد صلى الله عليه وآله وسلم عدلاً وواسطة بين الرسول والناس ، ومتى قيل : إذا كان في الاُمّة من ليس هذه صفته ، فكيف وصف جماعتهم بذلك ؟ فالجواب : إنّ المراد به من كان بتلك الصفة ، ولاَن كل عصر لا يخلو من جماعة هذه صفتهم) (5).
____________
1) الكشّاف 1 : 318 .
3) الجامع لاَحكام القرآن 2 : 154 .
4) مجمع البيان 1 : 244 . وتفسير المراغي 2 : 6 . وتفسير المنار 2 : 5 .
5) الجرح والتعديل 1 : 7 . والكفاية في علم الرواية : 46 . والاِصابة 1 : 6 . والاستيعاب 1 : 2 . ومقدمة ابن الصلاح : 427 . وشرح الكوكب المنير 2 : 474 .
6) مجمع البيان 1 : 224 .
--------------------------------------------------------------------------------
( 29 )
وجعل أحمد مصطفى المراغي شرطاً للاتصاف بالعدالة والوسطية ، وهو اتّباع سيرة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ، فمن لم يتبعها يعتبر خارجاً عن هذه الاُمّة فقال : فنحن إنّما نستحق هذا الوصف إذا اتّبعنا سيرته وشريعته ، وهو الذي يحكم على من اتّبعها ومن حاد عنها وابتدع لنفسه تقاليد أُخرى وانحرف عن الجادّة ، وحينئذٍ يكون الرسول بدينه وسيرته حجّة عليه بأنّه ليس من أُمتّه.. وبذلك يخرج من الوسط ويكون في أحد الطرفين) (1).
وذهب إلى هذا الرأي محمد رشيد رضا في تفسير المنار (2).
وخصّص العلاّمة الطباطبائي هذه الصفة بالاَولياء دون غيرهم ، فقال : (ومن المعلوم أنّ هذه الكرامة ليست تنالها جميع الاُمّة ، إذ ليست إلاّ كرامة خاصة للاَولياء الطاهرين منهم) (3).
وقال ـ أيضاً ـ : (فالمراد بكون الاُمّة شهيدة أنّ هذه الشهادة فيهم ، كما أنّ المراد بكون بني إسرائيل فضّلوا على العالمين ، أنّ هذه الفضيلة فيهم من غير أن يتصف بها كل واحد منهم، بل نسب وصف البعض إلى الكل لكون البعض فيه ومنه) (4).
ومما يشهد على أنَّ المقصود ليس أفراد الاُمّة ، هو أنَّ الذين ذهبوا إلى حجية إجماع الاُمّة استندوا إلى هذه الآية ، واعتبروا إجماع الاُمّة هو الحجّة دون النظر إلى الاَفراد فرداً فرداً ، كما حكى عنهم الشريف
____________
1) تفسير المراغي 2 : 6 .
2) تفسير المنار 2 : 5 .
3) الميزان في تفسير القرآن 1 : 321 .
4) الميزان في تفسير القرآن 1 : 321 .
--------------------------------------------------------------------------------
( 30 )
المرتضى (1)َوأبو حيان الاَندلسي (2).
وأكدّ علاء الدين البخاري على أنّ المقصود هو مجموع الاُمّة فقال : (فيقتضي ذلك أن يكون مجموع الاُمّة موصوفاً بالعدالة ، إذ لا يجوز أن يكون كل واحد موصوفاً بها ، لاَنّ الواقع خلافه) (3).
وبعد ، فإنَّ من غير الصحيح الاستدلال بالآية الكريمة على عدالة الصحابة أجمعين ، أمّا على تفسير العلاّمة الطباطبائي فالاَمر واضح ، وأمّا على ما ذكرنا سابقاً من ضرورة لحاظ آيات القرآن الكريم كلّها وضمّ بعضها إلى البعض الآخر ، فهي وانْ شملت الاَفراد لكن «الذين آمنوا» فقط ، دون «الذين في قلوبهم مرض» و «المنافقين» ، وأمّا على أقوال الجمهور ، فلا يمكن أن يكون المقصود أفراد الاُمّة واحداً واحداً ليستفاد منها عدالة الصحابة ، لاَن الواقع خلافه كما نصّ عليه العلاء البخاري .
فالآية الكريمة جعلت المسلمين أُمّة وسطاً أو عدلاً ، وهذه الوسطية والعدلية ممتدة مع امتداد الاُمّة الاِسلامية في كلِّ عصر وزمان ، فالاُمّة الاِسلامية في مراحل لاحقة هي أُمّة وسط في عقيدتها وشريعتها وتطبيقها للمنهج الاِسلامي ، وفي مرحلتنا الراهنة حينما نقول إنّ الاُمّة الاِسلامية أُمّة وسط أو أُمّة عادلة ، يصح القول إذا كان المقصود مجموع الاُمّة ، أمّا سراية الوسطية والعدلية للاَفراد فرداً فرداً فلا تصح ، لاَنّ الواقع يخالف ذلك ، فكثير من المسلمين بعيدون عن الاِسلام كلّ البعد في تصوراتهم
____________
1) الشافي في الاِمامة 1 : 232 وما قبلها .
2) تفسير البحر المحيط 1 : 421 .
3) كشف الاَسرار ، لعلاء الدين البخاري ، دار الكتاب العربي ـ بيروت 1394 هـ .
--------------------------------------------------------------------------------
( 31 )
ومشاعرهم ومواقفهم ، فكيف نعمّم العدالة على الاَفراد ؟ وما نقوله هنا نقوله في حقّ أفراد الاُمّة في زمن النزول ، فالآية مختصة بمجموع الاُمّة بما فيها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم والعترة الطاهرة: والمهاجرون والاَنصار السابقون للخيرات والذين لم يخالفوا الاَوامر الاِلهية والنبوية طرفة عين ، واستمروا على ذلك حتى بعد رحيل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم .
الآية الثالثة : قال تعالى : ( وَمَنْ يُشاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ ما تبيَّنَ لهُ الهدى ويتَّبِع غيرَ سبيلِ المؤمنين نولِّه ما تولّى ونُصْلِهِ جَهَنَّمَ وساءت مصيراً ) (1).
استدل البعض على طهارة وعدالة جميع الصحابة فرداً فرداً بهذه الآية الكريمة ومنهم عبدالرحمن الرازي (2).
ووجه الاستدلال : أنّ الله تعالى جمع بين مشاقة الرسول واتّباع غير سبيل المؤمنين في الوعيد ، فيكون اتّباع سبيلهم واجباً ، ولا يصح الاَمر باتّباع سبيل من يجوز عليهم الانحراف والريبة والفسق .
ولا علاقة للآية بمسألة عدالة الصحابة أبداً كما لا يخفى . ومع التنزل فإنّ الاستدلال بهذه الآية على عدالة جميع الصحابة فرداً فرداً لا يصح من عدة وجوه :
الاَول : ذهب كثير من المفسرِّين والمتكلمين إلى أنَّ المقصود بسبيل المؤمنين هو مجموع الاُمّة ، ومنهم القصّار المالكي والسبكي (3).
____________
1) سورة النساء 4 : 115 .
2) الجرح والتعديل ، لعبدالرحمن الرازي 1 : 7 .
3) المقدمة في الاُصول ، للقصّار المالكي : 45 . والابهاج في شرح المنهاج ، للسبكي 2 : 353 .
--------------------------------------------------------------------------------
( 32 )
الثاني : المراد بسبيل المؤمنين هو الاجتماع على الاِيمان وطاعة الله ورسوله ، فإنَّ ذلك هو (الحافظ لوحدة سبيلهم) (1).
الثالث : أن يكون سبيل المؤمنين خالياً من الاثم والعدوان ، كما ورد في الآيات الكريمة ، ومنها : قوله تعالى : ( وتَعاونُوا على البرِّ والتَّقوى ولا تَعاونُوا على الاِثمِ والعُدوانِ ) (2)، وقوله تعالى : ( يا أيُّها الذين آمنُوا إذا تناجَيتُم فلا تَتَناجَوا بالاِثمِ والعُدوانِ ومعصِيةِ الرَّسُولِ وتناجَوا بالبّرِ والتَّقوى) (3).
فالله تعالى ينهى عن التعاون والمناجاة بالاِثم والعدوان ، لاِمكان وقوعه من قبل المسلمين .
الرابع : اختلف الصحابة فيما بينهم حتى وصل الحال بهم إلى الاقتتال، كما حدث في معركة الجمل وصفين ، فيجب على الرأي المتقدم اتّباع الجميع ، اتّباع علي بن أبي طالب عليه السلام والخارجين عليه ، وهذا محال ، واتّباع أحدهم دون الآخر يعني عدم اتّباع الجميع بل البعض منهم ، وهذا هو الوجه الصحيح ، وهو وجوب اتّباع من وافق الحق والشريعة وليس اتّباع كل سبيل .
فالسبيل المقصود هو سبيل المؤمنين الموافق للحق وللاَُسس الثابتة في الشريعة ، وليس هو سبيل كلّ فرد من أفراد المؤمنين .
وقد أشار ابن قيم الجوزية إلى استحالة توزيع سبيل المؤمنين على
____________
1) الميزان في تفسير القرآن 5 : 82 .
2) سورة المائدة 5 : 2 .
3) سورة المجادلة 58 : 9 .
--------------------------------------------------------------------------------
( 33 )
الاَفراد فقال : (إنّ لفظ الاُمّة ولفظ سبيل المؤمنين لا يمكن توزيعه على أفراد الاُمّة وأفراد المؤمنين) (1).
الآية الرابعة : قال الله تعالى : ( يا أيُّها النَّبيُّ حَسْبُكَ اللهُ وَمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ المُؤمِنينَ ) (2).
في هذه الآية تطييب لخاطر النبي صلى الله عليه وآله وسلم بأنّ الله حسبه أي كافيه وناصره ومؤيده على عدوه ، واختلف في بيان المقصود من ذيل الآية ، فقال مجاهد : (حسبك الله والمؤمنون) (3)، فجعل المؤمنين معطوفين على الله تعالى ، فالله تعالى والمؤمنون هم الذين ينصرون النبي صلى الله عليه وآله وسلم ويؤيدوه .
وذهب ابن كثير إلى جعل المؤمنين معطوفين على النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأنّ الله تعالى ناصرهم ومؤيدهم فقال : (يخبرهم أنّه حسبهم ، أي كافيهم وناصرهم ومؤيدهم على عدوهم) (4).
وذكر العلاّمة الطباطبائي كلا الرأيين ورجَّحَ الرأي الاَول (5).
وهنالك قرينة تدل على ترجيح الرأي الاَول ، وهي قوله تعالى : (...فإنَّ حَسْبَكَ اللهُ هو الذي أيَّدَكَ بنصرِهِ وبالمؤمنين ) (6).
والآية تسمّي من كان مع النبي صلى الله عليه وآله وسلم بالمؤمنين سواء كان الله تعالى
____________
1) أعلام الموقعين 4 : 127 .
2) سورة الانفال 8 : 64 .
3) الدر المنثور 4 : 101 .
4) تفسير القرآن العظيم 2 : 337 .
5) الميزان في تفسير القرآن 9 : 121 .
6) سورة الانفال 8 : 62 .
--------------------------------------------------------------------------------
( 34 )
ناصره وناصرهم ، أو كان الله والمؤمنون ناصرين له صلى الله عليه وآله وسلم ، ولا دلالة على أكثر من ذلك .
وقد ذهب الخطيب البغدادي وابن حجر العسقلاني إلى أنّ الآية تدل على ثبوت عدالة الصحابة أجمعين وطهارتهم (1). وجعلوا الآية شاملة لجميع الصحابة حتى الذين لم يشتركوا في أي غزوة من الغزوات ، وهذا التعميم بحاجة إلى دليل ، ولا يكفي أن نقول : إنَّ العبرة بعموم اللفظ لابخصوص المورد ، فالآية قد نزلت في مورد خاص وفي معركة بدر بالخصوص ، فكيف نعمّمها على جميع الصحابة حتى الذين كانوا يقاتلون في صف المشركين ثم أسلموا فيما بعد؟
وتسالم المفسرون على نزول الآية في مورد خاص وهو غزوة بدر ، وفي جماعة خاصة من الصحابة ، وهم الصحابة الاَوائل الذين اشتركوا في الغزوة ولم يتخلّفوا ، لا في مطلق الصحابة .
فقيل : أنّها نزلت في الاَنصار (2).
وقيل : أنّها نزلت في الاَربعين الذين أسلموا في بداية البعثة (3).
وعن الاِمام محمد الباقر عليه السلام : « أنّها نزلت في عليّ بن أبي طالب » (4).
والجامع المشترك لهذه الآراء أنّها نزلت في الصحابة الذين شاركوا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في القتال .
____________
1) الكفاية في علم الرواية : 46 . والاِصابة في تمييز الصحابة 1 : 6 .
2) التفسير الكبير 15 : 191 . والدر المنثور 4 : 101 .
3) أسباب النزول ، للسيوطي : 183 . والدر المنثور 4 : 101 .
4) شواهد التنزيل ، للحسكاني 1 : 230 .
--------------------------------------------------------------------------------
( 35 )
وبهذا يتضح عدم صحة ما ذهب إليه الخطيب البغدادي وابن حجر العسقلاني من شمولها لجميع الصحابة فرداً فرداً ، فالمتسالم عليه أنّ عدد الصحابة الذين اشتركوا في غزوة بدر كانوا ثلاثمائة وثلاثة عشر ، أمّا بقية الصحابة الذين أسلموا فيما بعد وخصوصاً بعد فتح مكة ، فقد كان بعضهم في صفوف المشركين الذين قاتلوا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ، فكيف تشملهم الآية التي نزلت لتطييب خاطر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وإبلاغه بأنّ الله تعالى كافيه وناصره على أعدائه الذين جمعوا له للقضاء عليه وعلى رسالته ، وجميعهم من الصحابة الذين أسلموا فيما بعد ، كمعاوية ، وعمرو بن العاص ، وخالد بن الوليد وغيرهم !
ومع نزول الآية في الصحابة الاَوائل ، إلاّ أنّها مشروطة بحسن العاقبة ، كما سيأتي فيما بعد (1).
وهذا كلّه بحسب الاَقوال والآراء في معنى الآية ونزولها .
أمّا بالنظر إلى ما قدّمناه فإنّ الآية المباركة تقول للنبي صلى الله عليه وآله وسلم : ( حَسْبُكَ اللهُ وَمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ المُؤمِنينَ ) وهل يعمّ هذا اللسان غير «الذين آمنوا» من «الذين في قلوبهم مرض» ومن «المنافقين» ؟!
الآية الخامسة : قال الله تعالى : ( والسّابِقُونَ الاَوّلُونَ مِنَ المهاجرِينَ والاَنصارِ والَّذينَ اتّبعُوهُم بإحسانٍ رّضيَ اللهُ عنهُم ورضُوا عنهُ وأعدَّ لهُم جنّاتٍ تجري تَحتَها الاَنهارُ خالدِينَ فيها أبداً... ) (2).
____________
1) راجع الآية السابعة من هذا الفصل .
2) سورة التوبة 9 : 100 .
--------------------------------------------------------------------------------
( 36 )
في هذه الآية ثناء من الله تعالى للسابقين من المهاجرين والاَنصار والتابعين لهم بإحسان ، وتصريح منه تعالى برضاه عنهم لما قدّموا من تضحيات في سبيل الله .
واختلف المفسرون في مصداق السابقين على آراء (1):
الرأي الاَول : أهل بدر .
الرأي الثاني : الذين صلّوا إلى القبلتين .
الرأي الثالث : الذين شهدوا بيعة الرضوان .
واختلفوا في تفسير التابعين على آراء :
الاَول : هم الاَنصار ، على قراءة من حذف الواو من قوله (والّذين) (2).
الثاني : هم المسلمون الذين جاءوا بعد المهاجرين والاَنصار (3).
الثالث : هم المسلمون الذين جاءوا بعد عصر الصحابة (4).
الرابع : هم المسلمون في كلِّ زمان إلى أن تقوم الساعة (5).
واستدل الخطيب البغدادي وابن حجر العسقلاني وابن النجّار حسب رأيهم المعروف بهذه الآية على رضوان الله تعالى عن جميع الصحابة
____________
1) مجمع البيان 3 : 64 . والجامع لاَحكام القرآن 8 : 236 . والكشاف 2 : 210 . وتفسير القرآن العظيم 2 : 398 . والدر المنثور 4 : 269 .
2) التفسير الكبير 16 : 171 .
3) المصدر السابق 16 : 172 .
4) الجرح والتعديل 1 : 8 .
5) الدر المنثور 4 : 272 .
--------------------------------------------------------------------------------
( 37 )
الذين عاصروا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وإن أسلموا فيما بعد ، أو ارتدّوا ثم عادوا إلى الاِسلام ، حسب تعريفهم للصحابة ، وبهذا الرضوان كانوا عدولاً (1).
وهذا الاستدلال خلاف للواقع ، فالآية مختصّة بالمهاجرين والاَنصار الذين سبقوا غيرهم في الهجرة والنصرة ، من غير «الذين في قلوبهم مرض» و «المنافقين» أمّا التبعية لهم فمشروطة بالاِحسان ، سواء فُسِّر باحسان القول فيهم كما ذهب الفخر الرازي (2)، أو حال كونهم محسنين في أفعالهم وأقوالهم ، كما قال المراغي : (فإذا اتّبعوهم في ظاهر الاِسلام كانوا منافقين مسيئين غير محسنين ، وإذا اتّبعوهم محسنين في بعض أعمالهم ومسيئين في بعض كانوا مذنبين) (3).
فمن لم يحسن القول فيهم أو من لا يتبعهم بإحسان لا يكون مستحق